سرقت حقائبهم المدرسية وأهدتهم شقاء الكبار
بلدنا-أماني شنينو-غزة
لم تقتصر حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة بتدمير البنى التحتية والمنازل والمستشفيات والشوارع، بل تجاوزت ذلك إلى اغتيال ممنهج لمستقبل جيل كامل.
اضطرّ الأهالي للنزوح، فلجأوا إلى المدارس، وخاصة تلك التابعة لوكالة الأونروا، ظناً منهم أنها ستوفر ملاذاً آمناً تحميه الأعراف والمواثيق الدولية. لكن الواقع المرير أثبت أن الاحتلال لا يردعه أي قانون أو ميثاق. استُهدفت المدارس الحكومية والخاصة ومدارس الوكالة على حد سواء، لتتحول المساحات التعليمية إلى مراكز إيواء، ثم إلى دمار، تاركة السكان بلا مأوى وأطفالهم بلا أي فرصة للتعليم. لقد دُمّرت 97% من منشآت قطاع غزة التعليمية خلال حرب الإبادة.
ما إن يغادر المرء مسكنه، تتراءى له مئات الوجوه الصغيرة التي اختطفت الحرب براءتها. هنا طفل يحمل عبوات المياه لملئها، وهناك آخر يحمل على ظهره مجموعة من الأخشاب، وثالث يفتتح بسطة متواضعة على قارعة الطريق. هذه الوجوه البريئة، التي كان يفترض بها أن تحمل حقائب الدراسة وتمتلئ بالحيوية والمرح، أصبحت تحمل اليوم أعباء الحياة الثقيلة. لقد حولت الحرب أطفال غزة من تلاميذ يحلمون إلى أشخاص يتحملون مسؤوليات تفوق أعمارهم وتتجاوز أحلامهم بالمستقبل المشرق.
ريتال بصل ١٢ عاماً، تقف عند صينية خبز وضعتها فوق حجارة جمعتها من الطريق لتصنع بها ما ينوب عن طاولة صغيرة، تخبرني ريتال: "أبي لا يعمل منذ بدء الحرب وحتى الآن، لا يجد عملاً، فأمي تصنع الخبز وأقوم بأخذه منها وأخرج لبيعه"
بوجه متعب وعزيمة واضحة في عينيها تواصل:" أنا أواصل تعليمي في المدرسة، والآن أنا في الصف السابع، حالما أنتهي من بيع الخبز، أذهب للمدرسة الساعة ١١ صباحاً"
ريتال واحدة من الطلاب الذين لم يخذلهم الأمل، فقررت تحدي الواقع والظروف، تساعد أهلها، وتكمل دراستها، مزيج هائل من القوة يجعلك تبتسم.
لكن هناك وجه آخر المأساة، من لم تتيح لهم الظروف فرصة، فضحوا بالتعليم مقابل العمل، خلعوا رداء الطفولة وارتدوا مسؤولية الكبار، إبراهيم شعبان ١٢ عاماً، وصديقه أمير عوض ١٠سنوات، يحملون أكياس الطحين الفارغة، ليملؤوها بالأخشاب، يجوبون الشوارع بأقدام حافية؛ بحثاً عن خشب وورق، أخبراني أنهم يقومون بذلك لتتمكن أمهاتهم من إشعال النار للطهي، وما يزيد عن الحاجة يقومون ببيعه، فوالداهم عاطلين عن العمل.
إبراهيم وأمير، يمثلون 670 طالب انقطعوا عن التعليم خلال العامين الماضيين، وما يزال المستقبل التعليمي مجهولاً، بحسب إحصائية لليونيسيف.
إن الأزمة التعليمية تتجاوز مجرد فقدان الكتب والمقاعد الدراسية، لتشمل انهياراً في البيئة الحاضنة للنمو النفسي والاجتماعي.
في مقابلة مع الأم والأستاذة جيهان أبو لاشين، خبير PSS تعليم اجتماعي وعاطفي وميسرة الفنون التعبيرية في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
تقدم أبو لاشين شهادة مباشرة عن مدى استحالة العملية التعليمية في ظل ظروف الحرب، مشيرة إلى أن التحدي الأكبر لم يكن غياب المناهج، بل حالة النزوح وعدم الاستقرار، التي أفقدت الأطفال الرغبة في التعلم.
رغم محاولات المؤسسات التعليمية تقديم طرق إلكترونية، تؤكد أبو لاشين: "حاولت متابعة تعليمهم ولكن مواصلتها لا"، معللة ذلك بصعوبة متابعة أطفالها في ظروف النزوح المتكرر ل 17 مرة منذ بدء الحرب، بالإضافة إلى انقطاع شبكة الإنترنت.
وأشارت لصعوبة إقامة أي توازن بين متطلبات الحياة الأساسية والتعليم، خاصة للأم العاملة. فقد أصبحت أولويتها محصورة في "أن يقدموا الامتحانات التي عليهم تقديمها للترفع للمرحلة الدراسية التالية".
تقول أبو لاشين:" الانشغال بمتطلبات "الحياة البدائية" كالطبخ على الحطب والغسيل اليدوي، قد سحب كامل وقت وجهد الأم، ولم يترك لديها متسع لمتابعة شؤون الدراسة متابعة جيدة".
تنتقل جيهان أبو لاشين في شهادتها إلى البعد الأهم في هذه الأزمة، وهو دور المؤسسة التعليمية كأكثر من مجرد مكان لتلقي المناهج، وتؤكد على أن غياب المدارس يترك فاقداً تعليمياً كبيراً لدى الطلاب على مستوى مهاراتهم العاطفية والاجتماعية وسلوكياتهم.
وتشدد على أن المؤسسة التعليمية تمثل:
١- الوعي الذاتي: مساعدة الطلاب على فهم أنفسهم ما يحبونه وما يكرهونه، وفهم من حولهم.
٢- الصلابة النفسية: تعزيز المهارات العاطفية مما يزيد من صلابتهم النفسية في التعامل مع الواقع.
٣- الانضباط الاجتماعي: مساعدة الطلاب على الإنضباط الإيجابي وربط ما يتعلمونه بالحياة.
وفي ظل غياب التعليم فإن الطلاب يفقدون هذه الأساسيات المهمة لبناء شخصياتهم. بحسب أبو لاشين فإن وجود المؤسسة التعليمية بحد ذاته عاملاً أساسياً للحفاظ على هوية ودور الأطفال في المجتمع وسلامتهم النفسية، مما يجعل إعادة بناء هذا القطاع ضرورة إنسانية عاجلة تتطلب تدخلاً فورياً.
أجرينا مقابلة مع الأستاذ مجدي برهوم، رئيس قسم التقنيات التربوية والمتحدث باسم وزارة التربية والتعليم في غزة، للوقوف على التحديات والجهود المبذولة لضمان استمرار العملية التعليمية في القطاع.
أكد برهوم على خطورة الوضع بقوله: "ينطلق العام الدراسي الجديد 2025م في محافظات الوطن في الوقت الذي لا يزال يحرم فيه أكثر من 650 ألف طالب وطالبة من الالتحاق بمدارسهم في قطاع غزة للعام الدراسي الثاني على التوالي".
وأشار إلى أن الحرب المسعورة أدت حتى نهاية أغسطس 2025م إلى استشهاد أكثر من 18000 طفل فلسطيني في سن التعليم المدرسي، وإصابة عشرات الآلاف، إضافة إلى استشهاد أكثر من 800 موظفاً من العاملين في حقل التعليم.
وشدد برهوم على أهمية التعليم بالنسبة للقطاع، بالرغم من محاولات الاحتلال المستمرة: "بفضل الله تعالى غزة كانت البقعة الأقل أمية على مستوى قطاع غزة واستثمارنا الوحيد نحن في غزة ورأس مالنا هو الطالب الفلسطيني. ورغم محاولات الاحتلال من استهداف المنظومة التعليمية هدفه بذلك طمس القضية وتجهيل طلبتنا لتمرير مخططاته، إلا أن هناك الوعي لمحاربتها".
وفي سياق التعامل مع الأزمة، أوضح برهوم الإجراءات التي اتخذتها الوزارة:
• تشكيل خلية أزمة: تم تشكيلها بالتنسيق بين غزة ورام الله وعلى أوسع نطاق.
• وضع البدائل: شملت البدائل النقاط التعليمية الوجاهية والتعليم عن بعد عبر منصتي Teams و Wise School.
• الدعم والمساندة: سعت الطواقم الإدارية والفنية لدعمها ومساندتها والعمل على إنجاحها، من خلال المتابعة الميدانية وتشكيل فرق مختصة لذلك.
• تعويض الفاقد التعليمي: تم إعداد الرزم التعليمية والبطاقات العلاجية، وعقد دورات تدريبية للكوادر التدريسية "لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتجاوز كل المهددات والعقبات".
لخص برهوم أبرز التحديات التي تعيق استعادة العملية التعليمية:
• استمرار الاحتلال في منع دخول اللوازم المدرسية والمواد التعليمية.
• وجود آلاف النازحين داخل ما تبقى من المدارس وفي ساحاتها.
• تدمير واسع للبنى التحتية للمدارس ومحيطها.
• الحاجة الملحّة لإزالة الأنقاض قبل بدء أي عملية ترميم.
• النقص الحاد في الكوادر الأكاديمية بعد الاستشهاد أو النزوح.
ووجه برهوم دعوة عاجلة للمجتمع الدولي والجهات المانحة لتوفير تمويل عاجل لإعادة تشغيل المؤسسات التعليمية، والضغط للسماح بدخول المستلزمات المدرسية، ودعم جهود إزالة الأنقاض وتوفير مساحات تعليم آمنة.
كما أكد على أهمية الإسراع في العودة للتعليم الفعال "كحق عالمي كفلته المواثيق الدولية"، وضرورة إعداد برامج تعليمية تعالج ما فقد تربوياً وتعليمياً خلال سنتي العدوان.